صاحب المسحاة ترجمها محمود محمد شاكر من قصيدة ادون ماركهام

قصيدة «صاحب المسحاة» للشاعر الانجليزي Edwin Markham كتبها بعد رؤية لوحة رسمها الرسام أو المصور الفرنسي Jean-François Millet ، وقد قرأها الأستاذ محمود محمد شاكر -رحمه الله- باللغة العربية، ونشرت في مجلة المقتطف في عدد أبريل سنة 1934. وهذا نصها كما جاء في المجلة:

صاحب المسحاة
كتبها الشاعر الأميركي ادون ماركهام
على إثر رؤيته صورة لميليه المصو الفرنسي تمثل عاملا أضناه العمل
أرأيتموهُ!! متوكئا على نِصاب مِسحاته، قد قوَّست -ما سوى الله من عوده- أثقالُ السنين، فهو يُصَوِّب إلى الأرض من نظراته..
أرأيتموه!! وفي محيَّاه يتراءى خواءُ الأجيال المتصرمة، وعلى ظهره أعباء الحياة الدنيا..
ألا فمن ذا الذي ردّه ميتا لا تنبعثُ منه عاطفةٌ في طرب، ولا تقشعرُّ فيه جارحة من يأس؟ من ذا الذي صيَّره شيئا لا تحزنه نائبة، ولا يحرِّكه أمل. كأنما هو ثور أعجم في بلادته وحيرته؟
من ذا الذي وطَّأ فكَّه الوحشيَّ حتى استرخى؟ ولمن كفٌّ دكت هذا الجبين حتى انهزم؟ ولمن نفسٌ عصفت بشُعلة هذا العقل حتى انطفأت..
أهذا هو المخلوق الذي برأه الله وسوَّاه وأخرجه ليكون له السلطان على البرّ والبحر؟ وليتوسّمَ النجوم في أفلاكها؟ وليستنبط القدرة من بناء السماوات، ولينتفض إحساسه بنشوة الخلود؟ سبحانك الله…. فما نظنُّ أن في جهنَّم -ما بين خافيها وبايها- صورة هي أبْعَثُ للرُّعب والفزع من هذه الصورة. لا ولا صورة هي أفصح لسانا بِخِزْيِ هذه الأرض في حرصها الأعمى. أو صورة هي أجمعُ للآيات والنُّذر المرسلة لهذه النفس الإنسانية. أو صورة هي أَحْفَلُ بأشراط الدمار الذي يأتي على هذا العالم.
شتَّان ما هذا الحيوان الذي يحمل أثقال الحياة، وما حَمَلَةُ العرش من الملائكة المطهرين. ما لهذا العبد الذي يدير طاحونة الحياة، ولأفلاطون وفلسفته السامية؟
ما له وللثريا وعنقودها الخافق في أرجاء السماء؟ ماله ولسُبُحات الأغاني المترامية؟ ما لهذا العبد وتَنَفُّس الفجر النديِّ وانبلاجه؟ ما له وللون الفاتن في الوردة الجميلة.
من خلال هذا الشبح المفزع تُطل علينا الأجيال المعذَّبَة، وفي هذه القامة المقوّسة تتمثل مأساة الحياة؛ بل من خلال هذه الصورة شَكَت الانسانية بثّها إلى القدرة العالية التي خلقت السموات والأرض، حين خدعت بالخيانة، وسُلِبت بالمكر، وأُذيلَت باللؤم، واستُصْفِيَت مواريثها بالمظالم. فكان بثها وشكواها شعبة من الوحي والنبوَّة.
وأنتم، أيها الأرباب والأمراء والحكام في جنبات الأرض… أهذا ما تُقَدِّمُهُ أيديكم من عمل إلى ربكم سبحانه؟ هذا المسخ المشوّه، وقد ذهبتم بنور النفس التي كانت تضيء في قلبهِ…!! تبًّا لكم.. كيف تقَوِّمون مرة أخرى ما تقوَّس من هذا العود المعوجّ؟ انفثوا فيه -إن استطعتم- روح الخلود.. بل ردُّوا عليهِ النظرة السامية التي كانت لهُ، بل النور المبصر الذي كان في عينيهِ، ردُّوا عليهِ نَشْوَتَهُ للطرب، ولذته في الأحلام. ارفعوا عنهُ ما نزل بهِ من الفُضُوح الباقية، وأصلحوا ما كان من الخطايا الشائنة وامسحوا عن قلبه هموما لا طِبَّ لها.
أيها الأرباب والأمراء والحكام في جنبات الأرض..
ألا أخبرونا أين يضع الغيب المحجوب هذا الانسان؟ وكيف يجيبهُ عن سؤالهِ الْمُتَوثّب الضاري يوم تزلزل الأرض، وتخرُّ الجبال ويتدافع الكون بعضه في بعض!! ألا وظنُّوا ما يفعل بهؤلاءِ الأرباب الظالمين والملوك المتجبرين الذي نكَّروا الصورة التي سوَّاها الله ثم صوَّروه في تجاليد هذا المسخ الهائل.
ظُنُّوا.. يوم تُبدَّل الأرض غير الأرض والسموات.
يوم يأتي القاهر الجبَّار ليحاسب خلقه الجبارين.
يوم ينطق الحقُّ الأبديُّ، ويسكت الزمن الفاني.
﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا ۖ لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَٰنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾ [النبأ: 38].
﴿يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾ [النبأ: 40].
نقلها بتصرف: محمود محمد شاكر.
صورة مرفقة The Man with the Hoe:
هذه هي لوحة / صورة الرسام الفرنسي: Jean-François Millet التي كتب الشاعر الأمريكي Edwin Markham القصيدة بعد رؤيتها، وقد نشرت اللوحة سنة 1660 بصباغة زيتية على قماش، ثم نشرت بعد ذلك سنة 1661 على ورق.

نشرت القصيدة في ديوان للشاعر الأمريكي وانتشرت بشكل سريع يومئذ كما انتشرت اللوحة / الصورة، وهما معا بمثابة صيحة ضد الطغيان الذي يمارسه الإنسان الوحش تجاه الانسان الانسان! الصورة والقصيدة تختزل في كلماتها المعركة التي يخوضها إنسان القرن العشرين ومابعده.
ومن يفهم اللغة الانجليزية، فليس له أن يحرم نفسه من قراءة القصيدة الأصلية The Man with the Hoe وليس له أن يحرم نفسه من سماع قراءة صوتية حزينة مفجعة للقصيدة The Man with the Hoe mp3.
لوحة صاحب المسحاة بريشة طفل
وهذه صورة لطفل انطلقت ريشته ترسم تعب الإنسان العامل؛ ولكن الألوان رسمت شيئا آخر، فلكأنها مثل العصا السحرية تلمس القلب، فتبصر في الشقاء الراحة والمتعة.. شمس وطيور، وغمام وجبال، وبيت وأشجار!! فأين التعب والشقاء واليأس والعذاب؟!! اللهم بلى؛ إنما هي ريشة طفل يريد أن تكون الدنيا كما ترسم يده!7

نعم أيها الطفل.. الحياة جميلة، وليس يشوِّه جمالها غير هذا المسمى بالإنسان! هذا الإنسان الظالم لنفسه وأخيه، الذي ابتعد عن الفطرة = صبغة الله، وانطلق يعيش كما يريد هو فطغى وتكبر.. اُرسم أيها الطفل فرسوماتك وحدها تخفف الآلام، وتدفع الأحزان!
جزاكم الله خيرا
هل من من الممكن إرسال نسخة مصورة من المقالة كما نشرت في مجلة المقتطف؟
وجزاكم الله خيرا مرة أخرى.
مبكية ومؤثرة جدا
مقالة مؤثة جدا شكرا لكم
رحم الله الشيخ شاكر